الخميس، 29 ديسمبر 2011

إضاءات كربلائية

إضاءات كربلائية

       ما زالت واقعة الطف تدوي بصوتها في كل مكان، لتُعلن من جديد أنها الثورة الأبرز بين الثورات العالمية لأنها حملت الكثير من المضامين العالية، ولتُعلن مرة أخرى أنها ما زالت تؤتي أكلها كل حين، ذلك أنها ثورة ضد الظُلم والاستبداد والدكتاتورية ..
ثورة لاستعادة المفاهيم الإسلامية وتصنيفها من جديد ..
ثورة ضد الوحشية التي تمَثَّل بها البشر بدلاً من الحيوانات الضارية ..
ثورة ضد العنصرية والقبلية والفئوية والعِرقية والحزبية ..
ثورة شارك فيها الشيخ والطفل، الرجل والمرأة، العبد والحر ..
ثورة إنسانية ورسالية وعالمية ..
ثورة تحمل الكثير من المضامين والدلالات التي لا يمكن لهذه السطور أن تسعها لأنها ثورة إلهية ..
        وبلا شك أن كل ثورة لها خططها الإقليمية والإستراتيجية والعالمية، خصوصا إذا كانت ثورة إصلاحية تسعى لخلع ثياب الرذيلة ولبس ثياب الفضيلة، باعتبار أن الثورات على مر التاريخ تحتاج إلى قراءة أخرى، خصوصا الثورات التي فكّت قيد الإنسان من عبودية الإنسان، فإن الذي يبقى في ذاكرة التاريخ هي الثورات التي تتضمن استعادة مفاهيم تكاد تندثر من العقلية العربية والإسلامية، سواءً كانت تلك الثورات سلمية أو مسلّحة، مع مراعاة النتائج المرجوة في كلتا الحالتين، وحتى الثورات التي كانت من أجل استعادة عبودية الإنسان تحتاج إلى قراءة، ووضعها على ميزان الإنسانية قبل أي ميزان آخر.
        وحينما نأتي لثورة كثورة الإمام الحسين u التي قادها بنفسه، فإنها تحمل الكثير من القيم الظاهرة والباطنة، وتحتاج منّا إلى قراءة جديدة كل عام، حيث أن انتماءنا الفطري يستوجب علينا قراءة هذه الثورة بمعايير وموازين حديثة؛ لأنها ثورة ليست مخصصة لجماعة أو لإقليم أو لفئة أو لقبيلة أو لوقت وزمان معينين!! بل هي ثورة عالمية حملت وما تزال تحمل بين دفتيها كل أنواع القيم الإنسانية والإسلامية والرسالية، ولقراءة هذه الثورة من جديد يستلزم منّا التجرد من كل مسألة شأنها إثارة العصبيات والنعرات المختلفة، ولا بأس بافتراض المحال في هذه الثورة لإعطاء شمولية واسعة، مع مراعاة عدم الاستغراق المتكلّف في ذلك أو افتراض ما ليس له وجود وأصل.
        ولرُبَّ سائلٍ عن مدى حاجتنا للقراءة المتكررة في هذه الواقعة!! وهل أنها ستعطي نتائج جديدة؟ ثم هل ترَكَ المتقدمون للمتأخرين شيئا من ذلك؟!! وغيرها من الأسئلة الكثيرة التي تصب في هذا المجال تارة يفترضها العقل، والواقع حيناً آخر.
        فإنه من الطبيعي أن الإنسان إذا اهتمَّ بمسألة ما، يستلزم منه القراءة عدة مرات في المجال الذي هو بصدده حتى يخرج بفوائد لا حصر لها، ليخرج بنتائج تختلف عن النتائج التي كتبها من سبقه، وذلك لصيانة منهجه ورسالته وتنقيته من الشوائب قدر الإمكان، هذا في الأمور الاعتيادية التي تطرأ على الحياة، فكيف بواقعة كواقعة الطف، التي ما زال الكثير من العلماء والكتاب والمؤلفون يصنّفون في هذه الواقعة التصنيفات المختلفة .. مع العلم أن كثيراً منها مكرر، إلا أنّ هذا المكرر قد يختلف عن الآخر في الأسلوب والطريقة، فإنه ليس كل من صنّف كتابا أصبح مؤلفا وكلامه لا يُنقض!! ومع وجود هذا التكرار إلا أننا بحاجة إلى قراءة هذه المصنفات ووضعها على ميزان النقد والحيادية، حتى يتسنى لمن يكتب كتابا في هذا المجال أن يأتي بجديد وإلا فسوف يُنسى كما نُسي غيره.
        ومع أن القراءة في هذه المصنّفات قليلة من قبل بعض المؤلفين المعاصرين، وأن المكتوب أكثره تنظير يشتت القارئ تارة، ويبعده عن الحقيقة تارة أخرى لأنه مزيج بين نص التاريخ ونص العزاء، لذا يأتي التأكيد أننا بحاجة إلى هذه القراءة كما أسلفنا القول، وما أحوجنا إلى معايشة الواقعة بكل جوارحنا، وأننا بحاجة إلى قراءتها من جوانب شتى، مثل: الجانب العاطفي والمادي (الحسّي) والفكري والفلسفي والفقهي والتاريخي والعقدي والنفسي والسلوكي والعبادي والأدبي ... وغيرها من الجوانب التي تتحملها هذه الواقعة، وليس من الإنصاف إقحام جوانب بعيدة كل البعد عن الواقعة ونحمّلها ما لا تحتمل لنصل إلى المبتغى والهوى الشخصي.
        فإذا تحصلنا على بعض الأمور المرجوّة سندخل التاريخ من أوسع أبوابه، رغم أنه متاح للجميع، وفي الوقت ذاته نحن محتاجون إلى متخصصين في الجوانب آنفة الذكر، ليتسنى لنا كتابة المصداقية، ولتكون تلك الدراسات المتخصصة في قمّة هَرَم المصنّفات لواقعة كربلاء، ولتشكل مصدراً رئيسا لكل دارسي هذه الواقعة.
        وعودا على بدء حول الاستغراق في قراءة هذه الواقعة، فإنه في الوقت الذي يتفاجأ بعض الأخوة من المذاهب الأخرى، والديانات السماوية بطبيعة هذه الواقعة، نرى أن هناك كتابات برزت على الساحة جديرة بالاحترام، وهي محل إعجاب وإكبار، إلا أنها مع ذلك تحتاج إلى قراءة نقدية حيادية من حيث التركيز على الجوانب الإيجابية والسلبية، فهي ليست قرآنا منزّلاً كما يتعامل ويصفها بعض الناس!! بل هي محاولات لمفكرين وكُتّاب لإعطاء هذه الواقعة صورة متجددة، وهذا ما يفسّر لنا أن الواقعة ليست شخصية، بل هي بالمنطلق الأول إنسانية قبل إعطائها أي تصنيف من التصنيفات المعاصرة، ولذا نرى المسلمين بجميع مذاهبهم وتياراتهم يأخذون ما يزودهم في مشروعهم الحزبي، وغير المسلمين بدياناتهم أخذوا ما يساعدهم في نجاح مشاريعهم المستلّة من هذه الواقعة.
وحق لمثل هذه الثورة الإلهية أن تصمد أمام هجمات التاريخ.

هناك تعليق واحد:

  1. شكرا للكاتب على الطرح القيم وهو مهم للمتلقي في فهم واقعة الطف من منظور عقلائي بعيد عن العاطفة والتركيز على البعد الإنساني.

    ردحذف

وجهة نظر حول المعرض الدولي للكتاب بالرياض 2022م

  وجهة نظر حول المعرض الدولي للكتاب بالرياض 2022م   بقلم: عبدالله الرستم   يُعد موسم معرض الكتاب بالرياض من المواسم المهمة، حيث يجتمع تح...