السبت، 19 ديسمبر 2015

الأخفش الأكبر - عبدالحميد بن عبدالمجيد الهَجَري




الأخفش الأكبر

عبدالحَميد بن عبدالمجيد الهَجَري

(ت 177هـ)
بقلم: عبدالله بن علي الرستم


اسمه ونسبه:

هو أبو الخطاب عبدالحميد بن عبد المجيد الهَجَرِي مولى قيس بن ثَعْلَبَة، من كِبارِ العُلماءِ بالعربية. لقيَ الأعراب وأخذ عنهم، وهو أوَّل من فسر الشعر تحت كل بيت، وما كان الناسُ يعرفونَ ذلكَ قَبْلَهُ، وإنَّما كانُوا إذا فَرِغُوا من القصيدة فَسَّرُوها[1]. وينبغي التَنَبُّه من اسمٍ يشابهه، وهو: أبو الخطّاب الهَجَري واسمه (عمرو بن عمير) وهو مختلف في صحبته لرسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليه وآلهِ وَسَلَّم، ذَكَرَهُ أهلُ الحَدِيثِ في مُصَنّفاتِهِم، حيثُ إذا ورد سَنَدٌ فإنّهُ يُذكر باسم (أبو الخَطَّاب الهَجَري)[2]، والأخفش الأكبر لا يُذكر في كُتُبِ اللُّغةِ بِاْسمِ (أبو الخَطَّابِ الهَجَري) إلا ما نَدَر، ولعلَّ التفريق بينهما من الأمورِ السهلةِ، فمترجمنا عَالِمٌ في اللُّغَةِ، والآخر عالِمٌ في الحديث.

وقيسُ بنُ ثعلبة من بَكْرِ بن وَائِل مِنْ أهلِ البَصْرَةِ[3]، ذلكَ أنَّ هذهِ القبيلة كانَتْ مواطنُهَا تَمْتدُّ من اليمامةِ إلى البَحْرينِ إِلى سِيفِ كَاظمة فأطرافِ سَوَادِ العِراق، وَقَدْ تقدمَتْ شيئاً فشيئاً في العراق فقطنتْ على دِجْلَة في المنطقة المَدْعُوّةِ حتى يَوْمِنَا هذا بِاسْمِ (دِيارِ بَكْر)، وهي دِيَارٌ واسِعةٌ تُنْسَبُ إِلى بَكْرِ بن وَائل[4].


تاريخ ميلاده ووفاته:

        لم تذكر كتب التراجم والطبقات التي اطّلعتُ عليها تاريخ ميلادٍ أو عُمرٍ يُذكرُ له، بل المذكورُ تاريخُ وفاته، وهو عام 177هـ (793م)[5]، عِلْمَاً أن ابن خلِّكان ذَكَرَ أنه لم يظفر له بتاريخ وفاة؛ ولذا لم يفرد له ترجمة[6] وكذا اليافعي في مرآة الجنان[7]، والغريبُ أنَّ ابن خلِّكان لَمْ يَظْفَر لَهُ بتاريخِ وفاة!! حيث إن هناك من ترجم له ذكر تاريخ وفاته. أما عن قصة وفاته فيذكر الحافظ اليغموري أنَّ الأخفشَ دخلَ عليهِ لُصُوصٌ فَجَعلُوا يضربونَهُ بالسيوفِ، وهو يقول لهم: قدكُم الآن قدكُم الآن[8]؛ بمعنى: حَسْبُكُم.


معنى الأخفش:

        قال ابنُ مَنْظُور: الخفشُ ضَعْفٌ في البَصَرِ وضِيْقٌ في العَيْنِ، وقِيْلَ: صغر في العين خِلْقَةً، وقيل: هو فَسَادٌ في جفن العَيْنِ واحمرارٌ تضيقُ لهُ العُيونُ مِنْ غَيْرِ وَجَعٍ ولا قُرْحٍ، خفش خفشاً فهو خَفِشٌ وأخْفَش[9] ورجلٌ أخفش[10].


الأخافشة:

        سجّلَ التاريخُ مجموعةً ممن تَسَمّى أو حَمَلَ لقبَ (الأخفش)، وبالبحث تم الوقوفُ على مجموعة، وقد ذكر الزبيدي في تاج العروس[11] خمسة، وهم:

  1. الأخفش الأكبر: أبو الخطاب عبدالحميد بن عبدالمجيد، من أهل هَجَر ومواليهم، أخذ عنه أبو عبيدة وسيبويه، وغيرهما توفي عام (177هـ).
  2. الأخفش الأوسط: سعيد بن مسعدة، المجاشعي بالولاء، النحوي البلخي أحد نحاة البصرة، وهو صاحب سيبويه، وكان أكبر منه، توفي عام (215هـ).
  3. الأخفش الأصغر: علي بن سليمان بن الفضل النحوي، روى عن المبرد، وثعلب، ونحوهما توفي ببغداد عام (353هـ).
  4. أبو عبدالله هارون بن موسى بن شريك الدمشقي المعروف بالأخفش: ثقة نحوي مُقرئ، إمامٌ في قراءة ابن ذكوان، توفي بدمشق عام (292هـ) عن 93 عاماً.
  5. الحسين بن الحسن الأخفش، توفي سنة (1103هـ).
    إلا أن الأشهر ثلاثة: الأكبر والأوسط والأصغر[12].
            وحينما يرد في كتب اللغة اسم الأخفش إطلاقاً بدون إضافة فإن المقصود به هو الأوسط، وهو: سعيد بن مسعدة المجاشعي المتوفى عام (215هـ)، وهو تلميذ سيبويه، وقد قال بهذا الرأي بعض رجال العلم، منهم:
    السيد محمد مهدي بحر العلوم[13]، والشيخ علي النمازي الشاهرودي[14]، وكذا يوسف حسن عمر[15]، ورغم أن الأخفش الأكبر شيخُ سيبويه الذي يُعَدُّ من أئمة اللغة، وشهرته جاءت عن طريق سيبويه في كتابه كما ذكر الذهبي[16]؛ إلا أن شهرة الأخفش الأوسط هي التي أخذت هذا اللقب حينما يُذكر على إطلاقه، وفي كتب اللغة غالباً ما تُستعمل كلمة (أبو الخطاب)، أو (الأخفش الأكبر)، أو (عبدالحميد بن عبدالمجيد) حينما يُذكر رأي الأخفش الأكبر، ولعلَّ الحُصَري في زهر الآداب[17] ذكر (الأخفش القديم)، ويقصد بذلك أبا الخطاب.
    هَجَر (البحرين) موطن الأخفش:
            ذكرَ غيرُ واحدٍ من علماءِ التاريخ والتراجم على أنَّ (الأخفش الأكبر) عبدالحميد بن عبدالمجيد من أهل هَجَر، أو نسبوه إليها في قولهم (الهَجَري)، ومنهم: ابن كثير في البداية والنهاية 11/178، والزبيدي في تاج العروس مادة (خفش)، وابن خلّكان في وفيات الأعيان 3/301 ترجمة (437)، والذهبي في سير أعلام النبلاء 14/482 ترجمة (265)، وكذا في تاريخ الإسلام للذهبي 11/415، والشيخ عباس القمّي في الكنى والألقاب (الأخفش) 2/16، والسيد محسن الأمين في أعيان الشيعة 3/54 ترجمة (177) و 7/248 ترجمة (833)، وغيرهم كثير.
            وهناكَ مَنْ ينسِبُهُ إلى البصرة، كالذهبي في سير أعلام النبلاء 7/323 ترجمة (110)، وتارة ينسبه إلى هَجَر، وهذا شيء متعارف عليه في ترجمة بعضهم؛ وذلك بناءً على تنقلاتهِ المختلفةِ في الأقطار.
    ويُعزى نسبته إلى البصرة، ذلك إلى أنَّ عدداً هائلاً من القبائل الهَجَرية وغيرها كعبدالقيس، وبكر بن وائل، وغيرهم هاجروا إلى البصرة، وتوطَّنوا فيها، بِدْءاً من افتتاحها في العام السابع عشر من الهجرة وبعدها، فكانوا يُنسبون تارةً إلى هَجَر باعتبارها موطنهم الأصلي، وتارة إلى البصرة؛ لتوطنهم فيها، لهذا لا يبعد أن يكون الأخفش الأكبر بصريُّ المسكن والمذهب اللغوي، فيكون من المدرسة البصرية التي كان لها المكانة المرموقة في اللغة، وكانوا يقومون بالرحلات إلى القبائل في وسط الجزيرة العربية ممن لم يحتك بالمدنية، ولم يتأثر بالأعاجم وأضرابهم، والذين كان لهم تأثير واضح في إضعافِ اللسان العربي العام بدخول الكثير من المصطلحات غير العربية في كلامهم نتيجة طبيعية للتخالط، والاحتكاك معهم.
    ومن القرائِن الدالَّة على أنه من هَجَر البحرين لا غيرها، قول علامة الجزيرة الشيخ/ حمد الجاسر[18]: الهَجَري نسبةً إلى هَجَر، وهو عند الإطلاق يُقصد به المدينة المعروفة الواقعة فيما يُسمّى قديماً بإقليم البحرين، ثم بعد ذلك عُرف بالأحساء، إذ لا يعرف مكانٌ في الجزيرة أشهر من تلك المدينة. اهـ.
    وكذا قول القفطيُّ في إنباه الرواة[19]: (... وقال اليمني "هو الأوسط" وغلط وقال: "هو مولى من أهل هَجَر، وكان نحوياً لغوياً أخذ عنه أبو عبيدة معمر بن المثنّى وسيبويه وغيرهما" روى ذلك عن يوسف بن يعقوب السكّيت عن الجماز). اهـ.
    شئ من سيرته:
            يعدُّ الأخفش الأكبر (الكبير) شيخ العربية، وله آراؤه التي انفرد بها؛ لأنه اختلط بالأعراب وأخذ عنهم الكثير[20]، وهذا مما جعل جملةً من علماءِ اللغة يوردُ آراء الأخفش التي تعتبر في عُرفهم شاذّة، أو انفرد بها عن غيره من علماء اللغة؛ لأن كلام الأعراب يختلف عن كلام الحضَر؛ بسبب عدم اختلاطهم بالحضر إلا ما نَدَر، وهذا ما جعل البعض من علماء اللغة يُقحم في استشهاداته الكثير من كلام الأعراب، بخلافِ أهلِ الحضر. ولا يذكر أرباب التراجم سوى أنه شيخٌ من شيوخ العربية، ولكن بإمكاننا استنتاج الكثير عن سيرته من خلال آرائه، على أن مذهبه اللغوي مذهبٌ قويٌ رغم عدم شهرته، حيث إن شهرته جاءت عن طريق تلميذه سيبويه كما ذكر الذهبي: لولا سيبويه لما اشتهر[21]، ويقول الصفدي: كان ديّناً ورعاً ثقة[22].
            وقال الحافظ اليغموري: إن الأخفش من أصحاب عبدالله بن أبي إسحاق هو ويونس وعيسى، وكان هو وخلف الأحمر يأخذان عن أبي عمرو بن العلاء، وكان لا يدع الإعراب[23].
    الحركة اللغوية في عصره:
    الاختلاف في الرأي حالةٌ صحيّة خصوصاً إذا كان هذا الاختلاف يعتمد على أساسٍ متين في الفكرة المراد مناقشتها، إضافة إلى ذلك فهو ضرورةٌ من ضروريّات الحياة؛ لأنه يفتح آفاق الفكر ويحلّق به في سماء التعاطي الإيجابي مع كل قضية يراد إبداء الآراء حولها، وما آراء النحويين ببعيدة عن هذه الأجواء، والتي أنتجت لنا كثيراً من الآراء المهمة، والتي يظن بعض من يقرؤها أنها حربٌ ضروسٌ بين مدرستي البصرة والكوفة، في حين أنها ليست كذلك، فقد ولّدت لنا عدة آراء قادتنا إلى بر النجاة من بعض الآراء الأُحادية الملزمة لخطٍ واحدٍ من الفهم، ثم إن هذا الاختلاف جعل كثيراً من النُحاة يدوّنون آراءَهم ومناقشتها مع أمثالهم في نفس المجال.
    ولذا فإن هذه الروح وَلّدتْ لنا آراءَ كثيرةً في مجالِ اللُّغة، حيثُ كانَ لأَبي الخطّابِ آراؤُه التي انْفَرَدَ بها عن غيره، ووافق عليها كثيرٌ من النُحاة؛ وذلك لاحتكاكه بالأَعرابِ الذين كانوا يُشَكِّلون مصدراً من مصادره اللغوية، وهو ما جعله يبرز في هذا الجانب؛ ولذا فقد كان تلميذه سيبويه يستشهدُ بالكثيرِ من آراءِ أبي الخَطّاب في كتابه، ذلكَ أنَّهُ استشهد في 47 موضعاً بآراء أبي الخطّاب الهَجَري[24]، نحو: (حدثنا/حدثني أبو الخطاب)، وتارة يقول: (زعم أبو الخطّاب أنه سمع من العرب) وغير ذلك من العبارات المختلفة التي نقلها سيبويه في كتابه.
    كذلك فإن الاختلاف بين مدرستي البصرة والكوفة، هو نتاج امتزاج القبائل والثقافات، وهذا التمازُج بلا شك ولّد لنا آراءَ في غايةِ الأهمية، خُصُوصاً في فهم القرآنِ الكريمِ والحديثِ الشريفِ وكذلكَ شعر العَرَب؛ لأنَّ شعر العرب هو مصدر من مصادر اللغة كما أسلفنا، والتي غالباً ما يلجأ إليه النُحاة، وذلك لعدم احتكاك الأعراب بغيرهم من القوميات الأُخرى التي دخلت الإسلام واتخذت هاتين المنطقتين موطناً لها، وهذا مما جعلهم يحافظون على سَلامةِ اللُّغة مِنَ اللَّحْنِ.
    وفي الفترة التي عاشها أبو الخطّاب، لم تتكوّن مدرسة الكوفة من حيث وجود خطٍّ علمي يخالف مدرسة البصرة، ذلك أن بداية النواة في الكوفة كانت على أيدي تلامذة البصريين، خصوصاً وأن البصرة كانت سبّاقةً في جمع اللغة، ورواية الشعر ووضع قواعده ومصطلحاته، وصبغها بالصبغة العلمية[25]، ذلك أنه لم يبدأ الاختلاف إلا في نهاية القرن الثاني الهجري، حيث كانت الصلات العلمية بين الكوفة والبصرة مستمرة، ومن يقرأ في هذا الجانب يجد ذلك جليّاً في أن أساتذة الكوفة كانوا تلامذةً عند أساتذة البصرة، وليس غريباً من وجود بعض المؤشرات الموجودة في اختلاف الآراء، مثل: إنكار بعض البصريين على أبي الأسود الدؤلي (ت 69هـ) في بعض المسائل النحوية التي أوردها في شعره[26].
    من خلالِ اختلافِ الآراءِ بين البصريين والكوفيين اهتم بعض الأعلام بتصنيف ما اختلفوا فيه، أمثال: ابن كيسان (ت 320هـ) حيث ألف كتابه: (المسائل على مذهب النحويين مما اختلف فيه البصريون والكوفيون)، ليأتي بعده أبو جعفر النحاس (ت 338هـ) الذي ألّف كتاب: (المقنع في اختلاف البصريين والكوفيين)، وكذا أتى بعدهما: كمال الدين عبدالرحمن بن محمد الأنباري (ت 577هـ) في كتابه (الإنصاف في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين)[27]، وغيرها من المصنّفات التي أولت هذا الاختلاف اهتماماً كبيراً، وما ولّدته من آثار عظيمة على مستوى تطوّر الدرس اللغوي.
    شيوخه:

        لم نقع على ذكر لشيوخ الأخفش الكبير سوى أبي عمرو بن العلاء وطبقته[28]، وللأسف أن من في طبقة أبي عمرو بن العلاء يحتاج إلى تحديد، فكلمة (طبقته) مطلقة، وتحتاج إلى تقييد، وهذا ما لم يذكره من ذَكَرَ الأخفش الأكبر. ومن هم في طبقة أبي عمرو بن العلاء كثير، ولا نستطيع تحديدهم ما لم تثبت بعض القرائن على أنه تتلمذ عليهم، وهم:

  1. أبو عمرو: زبان بن العلاء بن عمار، أحد القراء السبعة خزاعي من مازن، ولد بالحجاز، وسكن البصرة سمع نافعا مولى ابن عمر وأخذ القراءة عرضاً وسماعاً للحروف عن جماعة، ومن كلامه إنما نحن في من مضى كبقل في أصول نخل طوال. مات بالكوفة سنة (154هـ) وعمره 86 سنة[29].
  2. عبدالله بن أبي إسحاق الحضرمي (ت127هـ): فقد كان هو وأبو عمرو بن العلاء لكلٍّ منهما مشاركة في المسائل العلمية التي كانت تُثار في مجالس العلماء ومنتدياتهم[30]، وهو كذلك: أول من نهج النحو، ومدّ القياس، وشرَحَ العلل[31]. وهو صاحبه في نفس الوقت كما ذكرنا سَلَفاً.
  3. الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 170هـ): لا أستبعد أن الأخفش الأكبر أخذ من الخليل، باعتبار أن البصريين كانوا يعقدون المجالس العلمية، وهذه طبيعة التواصل العلمي، والخليل بن أحمد كما يُذكر: (كان دور الخليل أبعد مدى وأكبر أهمية من دور زميله يونس بن حبيب (ت182هـ)، فهو الذي بسط النحو – أي الخليل – ومد أطنابه، وسبّب علله، وفتّق معانيه، وأوضح الحجاج فيه، حتى بلغ أقصى حدوده، وانتهى إلى أبعد غايته) كما يقول الزبيدي، (وكان الغاية في تصحيح القياس) كما يقول الأنباري[32].


تلامذته:

إن مكانةً كبيرةً لعالمٍ لُغَوِيٍّ كالأخفش الأكبرِ أن يكون لَهُ روّادٌ وتلامذةٌ، وقد ذكرت كتب التراجم بعض أولئك التلامذة، وهم على النحو التالي:

  1. عمرو بن عثمان (سيبويه).
  2. أبو عبيدة معمر بن المثنّى.
  3. عيسى بن عمر النحوي[33].
  4. علي بن حمزة (الكسائي).
  5. يونس بن حبيب[34].
  6. أبو محمد يحيى بن المبارك اليزيدي[35].
    وليس الأمر محصوراً في هؤلاء الستة، فعبارات من ترجم للأخفش الأكبر متقاربة، فحينما يذكرون اثنين من هؤلاء يعقّبون بـ(وغيرهما)، أو (ومن في طبقتهما) كما قال ابن خلّكان في وفيات الأعيان[36]. وبهذا القياس نستطيع أن نضيف الكثير ممن سكن البصرة من النُحاة، أمثال: سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري (أبو زيد الأنصاري) (ت215هـ)، عبدالملك بن قريب المعروف بالأصمعي (ت216هـ)، وغيرهما من علماء اللغة، إلا أن هذا يحتاج إلى أدلة وقرائن تثبت أن من عاش في هذه الفترة وسكن البصرة أخذ من مترجمنا.
    بعض آراء الأخفش اللغوية:
            لا شك أن إماماً من أئمة اللغة كالأخفش الأكبر له آراؤه في اللغة المبثوثة في المصنّفات المعنيّة كلسان العرب لابن منظور، وتاج العروس للزبيدي وغيرهما من علماء اللغة، وليس من السهل استخلاص تلك الآراء إلا من خلال أستاذٍ متخصصٍ غاصَ في بحر اللغة وتاريخها، إلا أني سأقتصر على ذكر بعض الأمثلة التي تفيد أن لهذه الشخصية وآرائه مكانةً كبيرةً عندَ عُلماءِ اللُّغة، وكما ذكرت سَلَفاً أن له آراء انفرد بها كما ذكر من ترجم له.
            ولعل استيعاب آرائه اللغوية التي أخذت نصيباً من كتاب سيبويه لم تغفل عن الباحثين في مجال اللغة، فقد أفردت إحدى الباحثات[37] دراسة وافية عن آراء الأخفش الواردة في كتاب سيبويه، إلا أني لم أتحصل على هذه الدراسة، وهي حديثة عهد في الصدور.
            وإليك بعض الآراء التي نقلها العلماء في مصنّفاتهم وذلك على السبيل المثال وليس الحصر:

  1. ذكر القرطبيّ في تفسير الآية التالية[38]:
    قال تعالى: )إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى( [طه: 15]، لكلمة أخفيها عدة وجوه في القراءة، فمنهم قرأها بالفتح (أَخْفيِها) كسعيد بن جُبير، وهي بمعنى أظهرها من خفيتُ الشيء أخفيه إذا أظهرته.
    ومنهم من قرأها (أُخْفيها) بضم الهمزة وهي بمعنى أظهرها، وقد قال بهذا الرأي بعض اللغويين ومنهم أبو الخطاب – الأخفش الأكبر عبدالحميد بن عبدالمجيد –، حيث روى عنه هذا الرأي سيبويه، وعلّق القرطبي: وهو رئيس من رؤساء اللغة لا يُشكُّ في صدقه، وأنشد قول امرئ القيس:



وإن تكتموا الداءَ لا نُخفهِ


وإن تبعثوا الحرب لا نقعُد

  1. وقال الرضي الاستراباذي في شرح الكافية[39]:
    ومنها: حي، أي أقبل، يُعدى بعلى نحو: حيّ على الصلاة، أي أقبل عليها، وعن أبي الخطّاب، أن بعض العرب يقول: حيهل الصلاة.
  2. وقال البغدادي في خزانة الأدب[40]:
    وحدثني الأثرم عن أبي عبيدة، قال: كنتُ مع أبي الخطّاب عند أبي عمرو في مسجد بني عديّ، فقال أبو عمرو: لا تجمع أيدٍ بالأيادي، إنما الأيادي للمعروف.
    قال: فلما قمنا، قال لي أبو الخطاب: أما إنّها في علمه ولم تحضره، وهو أروى لهذا البيت منّي:



ساءها ما تأملت في أياديـ

(م)

ـنا وإشناقها[41] إلى الأعناق!!

وهناك رواية أخرى يذكرها اليماني في إشارة التعيين[42] ونزهة الألباء[43]، وهي:

أن أبا عبيدة سأل أبا الخطّاب: هل تجمع (يد) الجارحة على (الأيادي)؟.

فقال: نعم. ثم سألتُ أبا عمرو بن العلاء، فأنكر ذلك.

فقلتُ لأبي الخطاب: إن أبا عمرو قد أنكر ما أثبتّهُ!.

فقال: أما سمع قول عدي:



ساءها ما تأملت في أياديـ

(م)

ـنا وإشناقها إلى الأعناق!!

ثم قال: هي في علم الشيخ لكنه قد نسي.

قال ابن الأنباري: هو كما قال أبو الخطّاب. قال الشاعر

فمن ليد تطاولها الأيادي

  1. قال الزبيدي في (تاج العروس) ومثله ابن منظور في (لسان العرب)[44]:
(... وَزَعَمَ أَبُو الخطّاب أَرْض وآراض، كما قالوا: أَهْل وآهال. قال ابن بري: الصحيحُ عِنْدَ المُحَقّقينَ فيما حُكي عن أَبِي الخَطَّاب أرض وأراض).


[1] إنباه الرواة على أنباهِ النحاة، جمال الدين أبي الحسن علي بن يوسف القفطي (ت624هـ)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي – القاهرة + مؤسسة الكتب الثقافية – بيروت، الطبعة الأولى – 1406هـ (1986م)، 2/157-158 + الأعلام، الزركلي، 3/288 + الوافي بالوفيات، الصفدي، ترجمة (الأخفش الأكبر).
[2] التاريخ الكبير، البخاري 6/184.
[3] الأنساب، عبدالكريم السمعاني 4/576.
[4] موسوعة قبائل العرب، عبدالحكيم الوائلي، دار أسامة – الأردن، الطبعة الثالثة – 2009م، 1/136 + 5/1818. + بنو بكر بن وائل، د/ عبدالرحمن الفريح، دار ابن حزم – الرياض، الطبعة الأولى – 1419هـ، 190.
وقيس بن ثعلبة بطنٌ عظيم من بكر بن وائل من العدنانية، وقد ذكر النسّابة ابن الكلبي نسبهم مفصلاً، ونذكره للفائدة: بنور قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان.
راجع: جمهرة النسب، هشام بن محمد بن السائب الكلبي (ت204هـ)، تحقيق د/ ناجي حسن، دار عالم الكتب + مكتبة النهضة العربية – بيروت، الطبعة الأولى – 1407هـ (1986م) 3/483-488. وهو ما ذكره الوائلي في المصدر السابق.
[5] الأعلام، الزركلي، 3/288.
[6] وفيات الأعيان، ابن خلكان، 3/301، ذكره ضمن ترجمة الأخفش الأصغر رقم (437).
[7] مرآة الجنان وعبرة اليقظان، عبدالله بن أسعد اليافعي (ت 768هـ)، الطبعة الأولى – 1337هـ، 2/61 (سنة خمس عشرة ومائتين).
[8] نور القبس، الحافظ اليغموري (ترجمة أبي الخطاب الأخفش).
[9] لسان العرب، ابن منظور مادة (خفش)، وقال نحوه الزبيدي في تاج العروس مادة (خفش).
[10] العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي مادة (خفش)، وكذا نحوه في المحيط في اللغة، للصاحب بن عباد مادة (خفش).
[11] تاج العروس، الزبيدي مادة (خفش) [بتصرّف].
[12] اقتصرتُ على ما ذكره الزبيدي في "تاج العروس"، وإلا فهناك كثيرٌ ممن لُقِّبَ بالأخفش، مثل: أحمد بن عمران البغدادي الألهاني (قبل 250هـ)، والحسين بن معاذ بن حرب (ت 277هـ)، وأبو بكر محمد بن خليل (375هـ)، ومحمد بن إسماعيل، وأبو الأصبغ عبدالعزيز بن أحمد اليحصبي (نحو 400هـ)، وصلاح بن حسين بن يحيى الصنعاني (ت1242هـ)، ومحمد بن سعيد البغدادي (نحو 1283هـ)، وعلي بن يحيى القيسي.
وذكر السيوطي آخرين غير الذين ذكرناهم، وهم: أحمد بن محمد الموصلي أحد شيوخ ابن جنّي، مصنّف كتاب (تعليل القراءات)، وخلف بن عمرو اليشكري البَلَنسي (ت بعد 460هـ)، وعبدالله بن محمد البغدادي من أصحاب الأصمعي، وعلي بن محمد الإدريسي (ت بعد 450هـ)، وعلي بن إسماعيل بن رجاء الفاطمي.
راجع: المزهر في علوم اللغة وأنواعها، جلال الدين السيوطي (ت 911هـ)، تحقيق: محمد جاد المولى بك و محمد أبو الفضل إبراهيم و علي محمد البجاوي، المكتبة العصرية – بيروت، 1408هـ (1987م)، 2/453-454.
[13] رجال السيد بحر العلوم (الفوائد الرجالية)، السيد محمد مهدي بحر العلوم، 3/5.
[14] مستدركات علم رجال الحديث، الشيخ علي النمازي الشاهرودي، 8/527.
[15] قاله في تحقيقه كتاب (شرح الرضي على الكافية 4/138) حيث قال: إن أبا الخطاب شيخ سيبويه لا يُعرف إلا بالأخفش الأكبر، أما سعيد بن مسعدة تلميذ سيبويه الذي تكرر ذكره فيكتفي فيه بلقب الأخفش بدون قيد، وقد يقال: الأخفش الأوسط زيادة في الإيضاح.
[16] سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي، 7/323 ترجمة (110).
[17] زهر الآداب وثمر الألباب، إبراهيم بن علي الحصري القيرواني، شرحه د/ زكي مبارك، دار الجيل – بيروت، 2/531 فصل [عودٌ إلى تطيّر ابن الرومي].
[18] أبو علي الهَجَري وأبحاثه في تحديد المواضع، حمد الجاسر، منشورات دار اليمامة – ا لرياض، الطبعة الأولى – 1388هـ (1968م)، ص15.
[19] إنباه الرواة على أنباهِ النحاة، علي بن يوسف القفطي، 2/157-158. وقصد بذلك أن اليمني أخطأ في نسبة (الأخفش الأوسط إلى هَجَر)، والصواب أن هذه النسبة متعلّقةٌ بالأخفش الأكبر.
[20] يبدو أن أبا الخطّاب تأثر بأستاذه أبي عمرو بن العلاء، حيث إنه – أبا عمرو – أقام بين البدو أربعين سنة، وهذا ما جعله مرجع الناس في عصره؛ لأنه كان أعلم الناس بالقراءات والعربية وأيام العرب والشعر. راجع: مراكز الدراسات النحوية، د/ عبدالهادي الفضلي، ص30.
[21] سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي، 7/323 ترجمة (110).
[22] الوافي بالوفيات، صلاح الدين الصفدي 18/49.
[23] نور القبس، الحافظ اليغموري ترجمة (أبي الخطاب الأخفش).
[24] سيبويه إمام النحاة، علي النجدي ناصف، عالم الكتب – القاهرة، الطبعة الثانية – 1399هـ، ص102.
[25] تاريخ الأدب العربي "العصر العباسي الأول" د/ شوقي ضيف، دار المعارف – مصر، الطبعة العشرون – 2009م، ص121.
[26] مراكز الدراسات النحوية، الدكتور/ عبدالهادي الفضلي، مكتبة المنار – الأردن، الطبعة الأولى – 1406هـ (1986م) ص 28-29،45-46 (بتصرف).
[27] مراكز الدراسات النحوية، د/ عبدالهادي الفضلي، ص47.
[28] الوافي بالوفيات، صلاح الدين الصفدي 18/49.
[29] البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة، محمد بن يعقوب الفيروز أبادي، ترجمة (129).
[30] مراكز الدراسات النحوية، د/ عبدالهادي الفضلي، ص27.
[31] تاريخ الأدب العربي "العصر العباسي الأول" د/ شوقي ضيف، ص121.
[32] مراكز الدراسات النحوية، د/ عبدالهادي الفضلي، ص35.
[33] سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي، 7/323 ترجمة (110)، وكذلك 14/482 ترجمة (265).
سيبويه هو: عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء، أبو بشر، الملقب سيبويه، إمام النحاة، وأول من بسط علم النحو. ولد في إحدى قرى شيراز عام 148هـ، وقدم البصرة، فلزم الخليل بن أحمد ففاقه توفي سنة 180هـ. راجع: الأعلام، الزركلي 5/81.
ومعمر بن المثنى التيمي بالولاء، البصري النحوي، ولد وتوفي بالبصرة (110-209هـ)، من أئمة العلم باللغة والأدب، استقدمه هارون الرشيد إلى بغداد عام 188هـ، وقرأ عليه أشياء من كتبه، قال الجاحظ: لم يكن في الأرض أعلم بجميع العلوم منه. راجع: الأعلام، الزركلي، 7/272.
عيسى بن عمر (ت149هـ) الثقفي بالولاء، أبو سليمان: من أئمة اللغة. وهو شيخ الخليل وسيبويه وابن العلاء، وأول من هذب النحو ورتبه. وعلى طريقته مشى سيبويه وأشباهه. وهو من أهل البصرة. ولم يكن ثقفيا وإنما نزل في ثقيف فنسب إليهم، وسلفه من موالي خالد بن الوليد المخزومي. وكان صاحب تقعر في كلامه، مكثرا من استعمال الغريب. راجع: الأعلام، الزركلي، 5/106. + بغية الوعاة في طبقات اللغوين والنحاة، جلال الدين السيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر – بيروت، الطبعة الثانية 1399هـ (1979م)، 2/74.
[34] الوافي بالوفيات، صلاح الدين الصفدي، 18/49.
علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي بالولاء، الكوفي، أبو الحسن الكسائي: إمام في اللغة والنحو والقراءة. من أهل الكوفة. قرأ النحو بعد الكبر، وتنقل في البادية، وسكن بغداد، وتوفي بالري عام 189هـ، عن سبعين عاما. الأعلام، الزركلي، 4/283.
يونس بن حبيب الضبي بالولاء (94-182هـ)، أبو عبد الرحمن، ويعرف بالنحوي: علامة بالأدب، كان إمام نحاة البصرة في عصره. أخذ عنه سيبويه والكسائي والفراء وغيرهم من الائمة. قال ابن النديم: كانت حلقته بالبصرة، ينتابها طلاب العلم وأهل الادب وفصحاء الأعراب ووفود البادية. وقال أبو عبيدة: اختلفت إلى يونس أربعين سنة أملأ كل يوم ألواحي من حفظه. وقال ابن قاضي شهبة: هو شيخ سيبويه الذي أكثر عنه النقل في كتابه. راجع: الأعلام، الزركلي، 8/261.
[35] قال أبو الطيب اللغوي: هو في طبقة أبي زيد والأصمعي وأبي عبيدة والكسائي، وعلمه عن أبي عمرو وعيسى بن عمر ويونس وأبي الخطاب الأكبر، وقد روى عن أبي عمرو القراءة المشهورة في أيدي الناس؛ إلا أن علمه قليل في أيدي الرواة؛ إلا في أهل بيته وذريته، وهو ثقة أمين مقدم مكين توفي عام (202هـ).
راجع: مراتب النحويين، عبدالواحد بن علي "أبو الطيب اللغوي" (ت 351هـ)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي، الطبعة الثانية – 1394هـ (1974م)، ص155. وكذلك الزركلي في الأعلام 8/163.
[36] وفيات الأعيان، ابن خلّكان 3/301 ترجمة (437).
[37] آراء الأخفش الأكبر في كتاب سيبويه "جمعاً ودراسة"، هدى محمد متولي إبراهيم السداوي، جامعة الأزهر – كلية الدراسات الإسلامية، 2003م، 290 صفحة.
[38] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي 11/182-183.
[39] شرح الرضي على الكافية، رضي الدين الاستراباذي، 3/98.
[40] خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، عبدالقادر بن عمر البغدادي، 7/452 (الشاهد الرابع والستون بعد الخمسمائة).
[41] الإشناق: أن ترفع يده بالغل إلى عنقه، راجع: لسان العرب، ابن منظور مادة (شنق) نقلاً عن ابن الأعرابي.
[42] إشارة التعيين في تراجم النحاة واللغويين، عبدالباقي بن عبدالمجيد اليماني (ت743هـ)، تحقيق د/ عبدالمجيد دياب، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية – الرياض، الطبعة الأولى – 1406هـ (1986م)، 178-179 ترجمة (105).
[43] نزهة الألباء في طبقات الأدباء، عبدالرحمن بن أبي الوفاء الأنباري (ت575هـ)، تقديم: علي يوسف، ص29، [د.ت] [د.ن]
[44] تاج العروس للزبيدي ولسان العرب لابن منظور مادة (أرض).


نُشر هذا البحث في (مجلة الواحة)، العدد الخامس والستون - السنة الحادية والعشرون - الربع الثاني (2015م)

وجهة نظر حول المعرض الدولي للكتاب بالرياض 2022م

  وجهة نظر حول المعرض الدولي للكتاب بالرياض 2022م   بقلم: عبدالله الرستم   يُعد موسم معرض الكتاب بالرياض من المواسم المهمة، حيث يجتمع تح...